بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الشهيد سيد رحمه الله :
(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) (الأنعام:55 )
فهو شأن عجيب ! . . إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة ! إن هذا المنهج لا يعني ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعني كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضآلين المجرمين أيضاً . . إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق !
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله ـ سبحانه ـ ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الإعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر ; والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص ; وأن ذلك حق محض وخير خالص . . كما أن قوة الإندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ; ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحآده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين ; الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (الفرقان:31) . . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين , أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون ; عن ثقة , وفي وضوح , وعن يقين .
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان , وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين .. يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ; ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين , في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم , وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان , ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .
وهذا التحديد كان قائماً , وهذا الوضوح كان كاملاً , يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله ـ سبحانه ـ يفصّل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة ـ ومنها ذلك النموذج الأخير ـ لتستبين سبيل المجرمين !
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة , وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس !
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين , في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام , يسيطر عليها دين الله , وتحكم بشريعته . . ثم إذا هذه الأرض , وإذا هذه الأقوام , تهجر الإسلام حقيقةً , وتعلنه إسماً . وإذا هي تتنكّر لمقومات الإسلام إعتقاداً وواقعاً . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام إعتقاداً ! فالإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله . . وشهادة أن لا إله إلاّ الله تتمثل في الإعتقاد بأن الله ـ وحده ـ هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله ـ وحده ـ هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله ـ وحده ـ هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيّما فرد لم يشهد أن لا إله إلاّ الله ـ بهذا المدلول ـ فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائناً ما كان إسمه ولقبه ونسبه . وأيّما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله ـ بهذا المدلول ـ فهي أرض لم تدين بدين الله , ولم تدخل في الإسلام بعد . .
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ; وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلاّ الله ـ بذلك المدلول ـ ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلاّ الله , ومدلول الإسلام في جانب ; وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم إستبانة طريق المسلمين الصالحين , وطريق المشركين المجرمين ; واختلاط الشارات والعناوين ; والتباس الأسماء والصفات ; والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً . حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! . . تهمة تكفير "المسلمين" !!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم , لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم !
هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألاّ تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألاّ تأخذهم فيها خشية ولا خوف ; وألاّ تقعدهم عنها لومة لائم , ولا صيحة صائح انظروا : إنهم يكفرون المسلمين !
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون ! إن الإسلام بيّن والكفر بيّن . . الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله ـ بذلك المدلول ـ فمن لم يشهدها على هذا النحو ; ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو , فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين . . ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) . .
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة ; وأن تتم في نفوسهم هذه الإستبانة ; كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة , ولا يعوقها غبش , ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلاّ إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون" . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلاّ إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق , وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين: ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55) .. أ هـ
( من تفسير في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب رحمه الله ج 6 ص126 ـ 128 )