«وأما الرضا بنبيه رسولًا فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه؛ فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره؛ ولا يرضى بحكم غيره ألبته، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقامه، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم. وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور»
قال ابن القيم رحمه الله ( الخامس أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم ولا سوغوه بتة بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه وهذا فعل أهل العلم وهو الواجب فإن التقليد إنما يباح للمضطر وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد فهو كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكى فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل عند الضرورة فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم )
و قال ابن القيم رحمه الله ( قال الشافعي قال لي قائل دلني على أن عمر عمل شيئا ثم صار إلى غيره لخبر نبوي قلت له حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر كان يقول الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله ص - كتب إليه أن يورث امرأة الضبابي من ديته فرجع إليه عمر وأخبرنا ابن عيينة عن عمرو وابن طاوس أن عمر قال أذكر الله امرأ سمع من النبي ص - في الجنين شيئا فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله ص - بعرة فقال عمر لو لم نسمع فيه هذا لقضينا فيه بغير هذا أو قال إن كدنا لنقضي فيه برأينا فترك اجتهاده رضي الله عنه للنص وهذا هو الواجب على كل مسلم إذ اجتهاد الرأي إنما يباح للمضطر كما تباح له الميتة والدم عند الضرورة فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم وكذلك القياس إنما يصار إليه عند الضرورة قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال عند الضرورة ذكره البيهقي في مدخله ) .
و قال رحمه الله ( الحالة الثانية أن يكون قد سأل عن الحادثة قبل وقوعها فهذا لا يجب على المفتى أن يجيبه عنها وقد كان السلف الطيب إذا سئل أحدهم عن مسألة يقول للسائل هل كانت أو وقعت فإن قال لا لم يجبه وقال دعنا في عافية وهذا لأن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار وهذا إنما هو في مسألة لا نص فيها ولا إجماع فإن كان فيها نص أو إجماع فعليه تبلغيه بحسب الإمكان فمن سئل عن علم فكتمه ألجمة الله يوم القيامة بلجام من نار هذا إذا أمن المفتى غائله الفتوى فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها امسك عنها ترجيحا لدفع أعلى المفسدتين ) .
فمراد ابن القيم رحمه الله أنه لا يجوز اللجوء إلى التقليد و القياس و هو الرأي مع وجود حكم الله تعالى أما مع عدم العلم بحكم الله تعالى في المسألة فيجوز اللجوء إلى القياس و التقليد كما يجوز أكل الميتة و الدم و التيمم بالتراب عند عدم وجود الماء .
و هنا مسألة يجب التنبيه عليها و هي أنه يجب أن يعلم لله تعالى في كل حادثة و نازلة حكم و لكن قد يخفى على بعض الناس هذا الحكم فيضطر إلى القياس أو التقليد و لا يقال أن هناك نوازل ليس لله فيها حكم قال تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف54
و قال {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }الأنعام154 فإذا كان هذا في كتاب موسى فمن باب أولى أن يكون كذلك كتاب الله تعالى القرآن الذي هو خاتم الكتب و أفضلها و المهيمن عليها و ناسخها و الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و الذي توكل الله تعالى بحفظه .
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }النحل89
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }العنكبوت51
لذا تجد بعض المسائل يحتج بعض أهل العلم فيها بالقياس ثم تجد أن غيرهم يأتي بدليل نقلي في المسألة فالأول احتج بالقياس لما لم يجد نصا من كتاب أو سنة أو إجماع فلجأ إلى القياس و الآخر وفقه الله تعالى إلى معرفة النص و لا تعارض بين النص و القياس قال شيخ الإسلام رحمه الله ( ومن كان متبحرًا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة. فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم، كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر؛ لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعني، وهذا المعني موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب. فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص، )
و كلامه ابن القيم رحمه الله هنا في مسألة تنقيح المناط فالواجب على العالم إذا نزلت به نازلة أو سأل عن مسألة أن يلجأ إلى الكتاب و السنة و الإجماع فإن لم يعلم دليل في المسألة جاز له حينها التقليد إن كان قادرا على الاستدلال إن احتاج إلى التقليد كما هو أصح أقوال العلماء في جواز تقليد القادر على الاستدلال إن احتاج له أو كان عاميا لا يستطيع أن يستدل و هذا كله عند ابن القيم من باب الاضطرار لا من باب الاختيار فمن لم يحتج إلى التقليد كمن عنده دليل في المسألة أو أن السؤال عن مسألة لم تقع و لا يحتاج فيها إلى التقليد لا يجوز له التقليد و كذلك القياس حكمه حكم التقليد في الحرمة و الجواز عند الاضطرار و كما قلنا أن هذا في تنقيح المناط و المراد هنا البحث عن دليل نقلي من كتاب أو سنة أو إجماع يدل على حكم هذه المسألة حتى نعرف حكم المسألة فإن لم نجد و نحتاج إلى معرفة حكم في المسألة جاز لنا حينها التقليد أو القياس .
أما مسألتنا في التحاكم فهي من باب تحقيق المناط فتحقيق المناط معرفة الحكم الشرعي ثابت إما بكتاب أو سنة أو إجماع فإن المسألة معروف حكمها عندنا في باب تحقيق المناط و عندنا واقعة تحتاج إلى حكم فهنا نحاول أن نعرف ما هو الحكم الشرعي الموافق لهذه الحادثة فإذا وافق الحكم الشرعي هذه الواقعة و المحل لا يجوز أن يلجأ إلى القياس أو التقليد لأن حكم الله تعالى الموافق للواقعة ثابت فمن خالف حكم الله تعالى و حكم بخلاف حكم الله تعالى مع علمه بحكم الله تعالى فهذا كافر و ليس بمسلم و الكلام هنا من جهة الكليات أي خالف حكم الله تعالى في المسألة مع علمه بحكم الله تعالى و هنا من باب الإفتاء و التشريع لأن الإفتاء و التشريع أحكام كلية تلزم كل من معين يدخل في هذا الحكم لذا قلنا أنها من باب الكليات أما بالنسبة للحكم بغير ما أنزل الله تعالى فيدخل فيها الحكم بالمعينات و الحكم بالكليات فإن كان القاضي يحكم بما أنزل الله تعالى و هو حكمه الله يحكم به بين الناس ثم حكم لمعين لمصلحة أو شهوة و لم يجعل هذا الحكم حكم الله تعالى و لم يجعله حكما عاما يعم كل معين في عين هذه الواقعة مع إقراره بالخطأ و الذنب فهذا كفر دون كفر أما إن جعله حكما عاما كليا يشمل كل معين يتحاكم إليه في هذه الواقعة و هو يعلم بطلان حكمه أو كان حكمه من المسائل المعلومة من دين الله ضرورة و لا يعذر فيها بجهل أو تأويل فهذا كافر لأن جعل هذا الحكم تشريعا عاما و نصب نفسه ندا لله تعالى في التشريع حتى لو كان يحكم في غيرها من المسائل بحكم الله تعالى و أبلغ من هذا كفرا من ترك حكم الله تعالى من أصله و جعل حكم الطاغوت هو المرجع بين الناس الذي يرجعون إليه كما هو حال القوانين التي تحكم على رقاب المسلمين اليوم فإن حكم الله تعالى نبذ من أصله و حل محله حكم الطاغوت و ما موافق حكم الله فهو داخل تحت حكم الطاغوت و تبع له لا لأنه من حكم الله تعالى و من المعلوم بضرورة الحس المشاهدة أن الكفر لا يسوغ على الناس إلا بلبس ببعض الحق مع الباطل كما قال تعالى {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }البقرة42 فهذا من رضي به و تحاكم إليه يكفر و إن كانت بعض أحكام الطاغوت موافقة لحكم الله تعالى .
فأحكام الطواغيت اليوم لا نختلف أنها عندنا باطلة نعلم يقينا بطلانها و مخالفتها للشرع ثم نطلب التحاكم إلى هذه الأحكام المخالفة للشرع فهذا هو التحاكم إلى الطاغوت الذي حكم الله تعالى بكفر من وقع فيه لذا قال ابن القيم رحمه الله ( ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه لا يرضى في ذلك بحكم غيره ولا يرضى إلا بحكمه ) و من تحاكم إلى الطاغوت غير مكره فقد رضي الله بحكم غيره فالواجب عليه عدم التحاكم إلى أحكام الطواغيت إلا أن يكون مكرها قال ابن القيم رحمه الله ( أن هؤلاء الذين لم يكتفوا بكتابه حتى سلكوا بزعمهم طريقة العقل وعارضوه به وقدموه عليه من جنس الذين لم يكتفوا به سبحانه إلها حتى جعلوا له أندادا يعبدونهم كما يعبدون الله بل أولئك لم يقدموا أندادهم على الله فهؤلاء جعلوا لله ندا يطيعونه ويعظمونه ويعبدونه كما يعظمون الله ويعبدونه وهؤلاء جعلوا لكتابه ندا يتحاكمون إليه ويقبلون حكمه ويقدمونه على حكم كتابه بل الأمران متلازمان فمن لم يكتف بكتابه لم يكتف به فمتى جعل لكتابه ندا فقد جعل له ندا لا يكون غير ذلك البتة .
فلا ترى من عارض الوحي برأيه وجعله ندا له إلا مشركا بالله قد اتخذ من دون الله أندادا ولهذا كان مرض التعطيل ومرض الشرك أخوين متصاحبين لا ينفك أحدهما عن صاحبه فإن المعطل قد جعل آراء الرجال وعقولهم ندا لكتاب الله والمشرك قد جعل ما يعبده من الأوثان ندا له ومما يبين تلازم التعطيل والشرك أن القلوب خلقت متحركة طالبة للتأله والمحبة فهي لا تسكن إلا بمحبوب تطمئن إليه وتسكن عنده يكون هو غاية محبوبها ومطلوبها ولا قرار لها ولا طمأنينة ولا سكون بدون هذا المطلوب والظفر به والوصول إليه ولو ظفرت بما ظفرت به سواه لم يزدها ذلك إلا فاقة وفقرا وحاجة وقلقا واضطرابا .) .
و قال رحمه الله ( ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم وأن عاقبته أحسن عاقبة ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته ) .
و من المعلوم أن التحاكم إلى الطواغيت كفر بنص الكتاب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }النساء60 .
و أن الكفر الظاهر قولا أو فعلا لا يجوز إلا عند الإكراه قال ابن القيم رحمه الله ( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان ) .