بسم الله الرحمن الرحيم
بيان أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به
الدليل الأول : قال تعالى : ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يـريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمـروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً ﴾
- وجه الدلالة الأول من الآية : أن فعل العبادة إذا أتى بعده ذكـر الصنم أو الوثن أو الطاغوت ثم اٌمر بعد ذلك بالكفـر به واجتنابه , فإن هذا الفعل يكون عبادة محضة الله عزوجل وصارفها لغيرالله واقع في الشرك الأكبر .
يقول الشيخ سليمان بن عبدالله آل شيخ في كتابه (تيسير العزيز الحميد ص 419) (( وفي الأية دليل على أن ترك التحاكم إلى الطاغوت الذي هو ما سوى الكتاب والسنة من الفرائض , وأن المتحاكم إليه غير مؤمن بل ولا مسلم ))
- وجه الدلالـة الثاني من الآية : أن الله سبحانه اعتبر من تحاكم إلى الطاغوت مؤمن به .
يقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ عند ذكر قوله تعالى : ﴿ فمن يكفر بالطاغوت.....﴾ الآية قال : (( وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به)) (فتح المجيد ص 245) .
- وجه الدلالة الثالث من الآية : قوله تعالى : ﴿ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً ﴾ . وقد بين الله تعالى في هذا النص أن الشرك الأكبر ضلال بعيد وتيه كبير لقوله تعالى : ﴿ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً ﴾
وقال تعالى : ﴿ يـدعوا من دون الله مالا يضره ومالا ينفعه ذلك هوالضلال البعيد ﴾
- فمن دعا غير الله فقد ضل ضلالاً بعيداً لأن دعا من غير الله من الشرك الأكبر.
- ومن تحاكم إلى غير شرع الله فقد ضل ضلالاً بعيداً لأن التحاكم إلى الطاغوت من الشك الأكبر . ولذلك من تتبع الآيات القرآنية جميعها عند ما يطلق الله تعالى (الضلال البعيد) في آية لوجد أن الله عزوجل يقصد بذالك الشرك والكفر الأكبر وهذا ما قد دلّت عليه الآيات نفسها .
- الدليل الثاني : قال الله تعالى :﴿إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه﴾الآية
وجه الدلالة من الآية : أن الله تعالى فدم مقدمة فقال : ﴿ إن الحكم إلا لله ...﴾ وهو الحكم على الأحكام وتشريعها وهذا من الربوبية, لآن التشريع وإصدار الأحكام من أفعال الله تعالى الخاصة بربوبية, فيلزم من الإيمان بالربوبية التوحيد بالألوهية, فمن أفعال الله تعالى أنه يرزق من العدم وينفع ويضر, فالعبادة التي تصرف له هي الدعا في طلب الرزق والإستغاثة به لأنه هوالذي ينفع ويضر, فإذا آمن العبد بأن الله تعالى هوالذي يجلب الرزق ويغيث الملهوف ولكن دعا البدوي أو الجيلاني واستغاث به فلا ينفعه حينئذٍ الإيمان والإقرار بربوبية الله أنه هوالذي يرزق وينفع و يضر , لأنه مشرك في الألوهية بسبب صرف عبادة الدعاء والاستغاثة إلى غير سبحانه , وكذلك الذي يؤمن ويقر بأن الله وحده هوالذي يحكم وهو المصدر للأحكام سبحانه , فإنه يلزم من الإيمان بربوبية الله أنه الحاكم , التحاكم إلى حكمه وشرعه . فإذا تحاكم الإنسان إلى غير حكم الله وشرعه فقد أشرك في الألوهية ولا ينفعه حينئذٍ الإيمان والإقرار بربوبية الله بأنه هوالحاكم . لأن الله تعالى فعلاً وللعبد فعلً, ففعل الله هو إصدار الأحكام وتشريعها وفعل العبد هو التحاكم إلى شريعة من أصدر الأحكام وشرعها. كما أنه من فعل الرزق من العدم ون فعل العبد الدعاء بطلب الرزق ممن يرزق من العدم . فلا فـرق عند المسلم الموحد بان الله تعالى هوالذي يرزق ويلزم منها عبادة الدعاء إذا صرفت هذه العبادة إلى غيرالله كان هذا شركاً أكبر, وبين أن الله تعالى هو الذي يحكم ,ويلزم منها عبادة التحاكم إذا صرفت هذه العبادة إلى غير شرع الله وحكمه كان هذا شريكاً أكبر, وهذا واضح بي قوله تعالى : ﴿أمـرالا تعبدوا إلاّ إيّاه﴾. ولذلك قال الله تعالى قريباً من معنى هذه الآية : ﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً ولا يستطيعون ﴾ وقال أيضاً : ﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم .. ﴾ الآية .
- فمن أفعاله سبحانه أنه هوالذي يرزق , فالعبادة التي تصرف له هي الدعاء بطلب الرزق.
- ومن أفعاله سبحانه أنه هو الذي ينفع و يضر. فالعبادة التي تصرف له هي الاستغاثة به واللجوء إليه .
- ومن أفعاله سبحانه أنه هو الذي يحكم . فالعبادة التي تصرف له هي التحاكم إلى حكمه و شرعه.
وقد عـزَّ فهم هذه الحقائق على كثير من الناس في هذا الزمان. يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي في كتابه القول السديد على كتاب التوحيد عند باب قوله تعالى : ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون ...﴾ يقول : (( فمن تحاكم إلى غير الله ورسوله صلي الله عليه وسلم فقد اتخذ ذلك ربَّا وقد حاكم إلى الطاغوت )) .
الدليل الثالث : ما جاء في الصحيحين أن النبي صلي الله عيه وسلم كان يدعوا بهذا الدعاء إذا قام يصلي من الليل : (( اللهم لك الحمد, أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت الحق , ووعدك الحق , ولقاؤك حق , والجنة حق , والنار حق , والنبيون حق , والساعة حق , ومحمد صلي الله عليه وسلم حق . اللهم لك أسلمت , وبك آمنت , وعليك توكلت , وإليك أنبت. وبك خاصمت , وإليك حاكمت , فاغفرلي ما قدمت وما أخرت , وما أسررت وما أعلنت , أنت إلهي لاإله إلا أنت )) . يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله عليه عند ذكر لهذا الدعاء : (( فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه بعبوديته له ثم ساله المغفرة )) . (المدارج :1\22). فذكر ابن قيم الجوزية ثلاثة أمور في هذا الدعاء , التوسل إلى الله بحمده والثناء عليه , ثم بعبوديته الله وهي توكل والإنابة والتحاكم , ثم ساله المغفرة فهذا نص واضح بأن فعل التحاكم عبادة مثل التوكل والإنابة .
ويقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله أيضاً عند ذكره لقوله تعالى : ﴿ فـلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجـر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ﴾ .
يقول : (( فأقسم : أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله , وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه , وحتى يسلموا لحكمه تسليماً . وهذا حقيقة الرضى بحكمه )) .
فالتحكيم : في مقام الإسلام . وانتفاء الحرج : في مقام الإيمان . والتسليم : في مقام الإحسان . ( المدارج 2\201) طبعة دار الكتب العلمية ).
فتأمل أخي رَحِمَكَ الله إلى قوله : (( فالتحكيم : في مقام الإسلام )) ففيه رَدّ على من جعل نفي الإيمان هنا في هذه الآية في من لم يٌحَكم الرسول هو نفي كمال الإيمان لا أصله .
ويقول العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره عند قوله تعالى : ﴿ فـلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجـر بينهم...﴾ الآية
قال رحمه الله : ( ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لايؤمنون حتى يٌحكموا رسوله فيما شجر بينهم أي : في كل شيء يحصل فيه اختلاف. بخلاف مسائل الإجماع , فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة . ثم لا يكفي هذا التحكيم . حتى ينتفى الحرج من قلوبهم والضيق , وكونهم يحكمونـه على وجـه الإغماض. ثم لا يكفي هذا التحكيم , حتى يُسَلِّموا لحكمه تسليماً , بانشراح صدر , وطمانينة نفس , وانقياد بالظاهـر والباطن . فالتحكيم , في مقام الإسلام , وانتفاء الحرج , في مقام الإيمان ,والتسليم في مقام الإحسان . فمن استكمل هذه المراتب , وكملها , فقد استكمل مراتب الدين كلها . ومن ترك هذا التحكيم المذكور , غير ملتزم له , فهو كافر . ومن تركه - مع التزامه - فله حكم أمثاله من العاصين . أهـ .