و قال رحمه الله ( وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء وإن خالفه بعمله معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق وإن خالفه معانداً بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا وهو قول اسحق بن راهوية وغيره وبه نقول وبالله تعالى التوفيق.) .
فعلى أصل ابن حزم كل من اتبع حكم خلاف حكم الله عملا دون الإعتقاد فهو متبع حكم خلاف حكم الله و لا يكفر حتى يعتقد صحة هذا العمل فيجعل ابن حزم من اتبع حكم خلاف حكم الله تحاكم على الطاغوت لذا قال رحمه الله ( فيمكن أن يكون هؤلاء الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت لا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مظهرين لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عصاة بطلب الرجوع في الحكم إلى غيره معتقدين لصحة ذلك ) .
أما من اعتقد صحة الحكم المخالف لحكم الله فهذا فيه التفصيل كما ذكرنا بحسب المسئلة التي يعتقدها المخالف أما مسئلة من يجعل الحكم لغير حكم الله فإن ابن حزم لا يخالف بأنه لا يصح إسلامه من جعل الحكم لغير الله فإنه ابن حزم رحمه ينقل الإجماع على كفر من حكم بحكم منسوخ من التوراة و الإنجيل فكيف بحكم مبدل لم يأت بشرع من الشرائع البتة كالحكم بالقوانين قال رحمه الله ( و احتج الموجبون للأخذ بشرائع الانبياء عليهم السلام بقوله تعالى : ( و ليحكم اهل النجيل بما انزل الله فيه ومن لم يحكم بما انزل الله فالئك هم الفاسقون ) .
قال أبو محمد : و هذا لا حجة لهم فيه لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن هذا منسوخ ، و أن من حكم بحكم الانجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الاسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الاسلام . ) .
و قال رحمه الله ( فقد جاء القرآن وصح الاجماع بأن دين الاسلام نسخ كل دين كان قبله، وان من التزم ما جاءت به التوارة أو الانجيل و لم يتبع القرآن فانه كافر مشرك غير مقبول منه فإذ ذلك كذلك فقد أبطل الله تعالى كل شريعة كانت في التوارة. و الانجيل و سائر الملل .
و افترض على الجن، والانس شرائع الاسلام، فلا حرام الا ما حرم فيه ولاحلال الا ما حلل فيه و لا فرض الا ما فرض فيه و من قال في شئ من الدين خلاف هذا فهو كافر بلا خلاف من أحد من الائمة ) .
قال ابن القيم , رحمة الله عليه :
" " وقد جاء القرآن، وصح الإجماع بأن دين الإسلام نسخ كل دين كان قبله، و أن من التزم ماجاءت به التوراة والإنجيل، ولم يتبع القرآن، فإنه كافر، وقد أبطل الله كل شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام، فلا حرام إلا ماحرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام. "
و بهذا يتبين ان ابن حزم لم يقصد أن من تحاكم إلى حكم خلاف حكم الله و هو يعلم أنه خلاف حكم الله أنه لا يكفر و إنما يتكلم عمن يريد التحاكم إلى حكم الله لكنه جهل أن الحكم الذي يتحاكم إليه حكم الله فهذا فيه تفصيل بحسب المسئلة التي تحاكم فيها .
و هنا تنبيه على خطأ وقع فيه ابن حزم و هو قوله ( عصاة بطلب الرجوع في الحكم إلى غيره معتقدين لصحة ذلك ) .
فقوله ( غير معتقدين لصحة ذلك ) فإن المثال الذي ضربه ابن حزم عن المقلدة الذين عندما يطالبون بالرجوع إلى الكتاب و السنة يرجعون إلى أقوال أبو حنيفة و الشافعي فإن هؤلاء المقلدة يعتقدون صحة الرجوع إلى أقوال أئمتهم لأنهم يظنون أن أئمتهم أعلم منهم و أقدر على فهم الكتاب و السنة فهم يعتقدون جواز الرجوع إلى كلام أئمتهم و اعتقاد جواز الرجوع إلى قول العالم للمقلد هو قول أكثر أهل العلم قال شيخ الإسلام بن تيمية ( و لفظ الشرع يقال في عرف الناس على ثلاثة معان :
[الشرع المنزل] . و هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يجب اتباعه، ومن خالفه وجبت عقوبته.
و الثاني [الشرع المؤول]. وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه فهذا يسوغ اتباعه ، و لا يجب و لا يحرم و ليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ، و لا يمنع عموم الناس منه .
و الثالث [الشرع المبدل]. وهو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها؛ والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع، كمن قال إن الدم والميتة حلال ـ ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك . ) .
و قال رحمه الله (وأيضًا فلفظ [الشرع] في هذا الزمان، يطلق على ثلاثة معان:
شرع منزل، وشرع متأول، وشرع مبدل.
[فالمنزل]: الكتاب والسنة، فهذا الذي يجب اتباعه على كل واحد، ومن اعتقد أنه لا يجب اتباعه على بعض الناس فهو كافر.
و[المتأول] موارد الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، فاتباع أحد المجتهدين جائز لمن اعتقد أن حجته هي القوية، أو لمن ساغ له تقليده ولا يجب على عموم المسلمين اتباع أحد بعينه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكثير من المتفقهة إذا رأى بعض الناس من المشائخ الصالحين، يرى أنه يكون الصواب مع ذلك، وغيره قد خالف الشرع، وإنما خالف ما يظنه هو الشرع، وقد يكون ظنه خطأ فيثاب على اجتهاده، وخطؤه مغفور له وقد يكون الآخر مجتهدا مخطئًا.
وأما [الشرع المبدل]: فمثل الأحاديث الموضوعة، والتأويلات الفاسدة والأقيسة الباطلة والتقليد المحرم، فهذا يحرم أيضًا، وهذا من مثار النزاع، فإن كثيرًا من المتفقهة والمتكلمة قد يوجب على كثير من المتصوفة والمتفقرة اتباع مذهبه المعين، وتقليد متبوعه، والتزام حكم حاكمه باطنًا وظاهرًا، ويرى خروجه عن ذلك خروجًا عن الشريعة المحمدية، وهذا جهل منه وظلم، بل دعوى ذلك على الإطلاق كفر ونفاق.
كما أن كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة يرى مثل ذلك في شيخه ومتبوعه، وهو في هذا نظير ذلك. وكل من هؤلاء قد يسوغ الخروج عما جاء به الكتاب والسنة، لما يظنه معارضًا لهما، إما لما يسميه هذا ذوقًا ووجدًا، ومكاشفات ومخاطبات، وإما لما يسميه هذا قياسًا ورأيًا وعقليات وقواطع، وكل ذلك من شعب النفاق، بل يجب على كل أحد تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به، وطاعته في جميع ما أمر به، وليس لأحد أن يعارضه بضرب الأمثال، ولا بآراء الرجال، وكل ما عارضه فهو خطأ وضلال. ) .
فالذي يتكلم عن ابن حزم و توقف في كفر أصحابه هو الشرع المؤول و ابن حزم يحرم التقليد قال ابن حزم في كتاب الأحكام ( و نحن على رفض رأيه و رأي غيره لقيام البرهان على تحريم التقليد ) .
و عذرهم بأنهم غير معتقدين لصحة ذلك و كما ذكرنا هم يعتقدون صحة الرجوع إلى قول أئمتهم و لو كانوا لا يعتقدون صحة الرجوع إلى أئمتهم و مع ذلك عندما ندعوهم إلى التحاكم إلى الكتاب و السنة يطلبون منا الرجوع إلى أقوال أئمتهم لكفروا لأنه يعلمون بطلان قولهم و مع ذلك يريدون أن يتحاكموا إلى أقوال أئمتهم قال شيخ الإسلام ( و قد يقول كثير من علماء المسلمين ـ أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم ـ أقوالا باجتهادهم، فهذه يسوغ القول بها، ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد، وقد يكون في نفس الأمر موافقًا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران، وقد لا يكون موافقًا له، لكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فإذا اتقي العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك، وغفر له خطأه.
ومن كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله، لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق، وذلك هو الشرع المنزل من عند الله، وهو الكتاب والسنة وهو دين الله ورسوله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله لا يجاهدون على قول عالم ولا شيخ متأول، بل يجاهدون ليعبد الله وحده ويكون الدين له، ) .
أما الشرع المبدل فهو الذي يدخل فيه الإجماع الذي نقله ابن حزم و شيخ الإسلام و ابن القيم على كفر من حكم به كالحكم بالمنسوخ و أولى منه الحكم بالمبدل كما هو الحكم بالقوانين اليوم فإنه كفر من حكم بالقوانين أو تحاكم إليه أظهر كفرا ممن حكم بالإنجيل و التوراة أو حكم بها قال شيخ الإسلام ( فأما الشرع المنزل : فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب و السنة ، و هذا الشرع يجب على الأولين و الآخرين اتباعه ، و أفضل أولياء الله أكملهم اتباعًا له ، و من لم يلتزم هذا الشرع ، أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل . ) .
و شيخ الإسلام هنا ذكر أحوال الأول من لم يلتزم الشرع هو حال من يلتزم بحكم الله و التزم بالحكم القوانين و الثاني من طعن في الشرع و الثالث من جوز لأحد الخروج عن شـرع الله و جميع هذه الأحوال كفر أكبر مخرج من الملة يستتاب صاحبها فإن تاب و إلا قتل و هذا الأصل مجمع عليه بين المسلمين .