العروة الوثقى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى
وبعد :
إن الله أختار لدينه عنواناً وهي كلمة "لا إله إلا الله " واشترط علينا لكي ندخل في دينه أن نأتي بهذه الكلمة مع مضمونها ومعناها وأركانها فهذه الكلمة تتكون من نفي واثبات ،أما النفي فهو المتمثل في – لا إله- أي نفي الألوهية عن غير الله – عز وجل - ،وأما الإثبات فهو المتمثل في – إلا الله – أي إثبات الألوهية لله وحده وهذان الركنان متلازمان لا ينفك احداهما عن الأخر فالنفي هو الكفر بالطاغوت والإثبات هو الإبمان بالله ،كما قال تعالى : ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) ﴾ [سورة البقرة 2/256] فالعروة الوثقى هي – لاإله إلا الله - :
- فمن كفر بالطاغوت ولم يؤمن بالله لم يأتي بمضمون هذه الكلمة .
- ومن آمن بالله ولم يكفر بالطاغوت لم يأتي بمضمون هذه الكلمة .
فلا تستقيم هذه الكلمة إلا بأن يأتي بها العبد بركنيهما معاً .
والطاغوت :هو كل شيء عبد من دون الله أو مع الله وهو راضٍ ،وهذان الركنان لا يتحققا إلا إذا أتى بهما بأركانهما .
وأما صفة الكفر بالطاغوت : هو اعتقاد بطلان عبادة غير الله وتركها وتكفير أهلها وبغضهم ومعاداتهم ؛فلا يكون الكفر بالطاغوت إلا إذا أتى بأركانها كاملة دون نقصان .
= فمن لم يعتقد بطلان عبادة غير الله ولكن تركها وكفر أهلها وبغضهم وعاداهم لم يأتي بالكفر بالطاغوت .
= وكذلك الذي اعتقد بطلان عبادة غير الله ولم يتركها وكفر أهلها وبغضهم وعاداهم لم يأتي بالكفر بالطاغوت.
= وكذلك الذي اعتقد بطلان عبادة غير الله وتركها ولم يكفر أهلها وبغضهم وعاداهم فهذا لم يأتي بالكفر بالطاغوت .
= وكذلك الذي اعتقد بطلان عبادة غير الله وتركها وكفر أهلها ولم يبغضهم ويعاديهم فهذا لم يأتي بالكفر بالطاغوت.
فلا يكون العبد كافراً بالطاغوت إلا إذا أتي بأركانها كاملة وهي: إعتقاد بطلان عبادة غير الله وتركها وتكفير أهلها وبغضهم ومعاداتهم .
أما الإيمان بالله فهو : إثبات لله أصول العبادة فلا يكون العبد مؤمناً بالله إلا إذا أثبت لله "التعظيم والمحبة والخوف والرجاء والخضوع " ،فمن أثبت التعظيم والمحبة دون الخوف لم يكن مؤمناً بالله ،ومن أثبت لله الرجاء والخضوع دون التعظيم لم يكن مؤمناً ،ومن أثبت الخوف والحب دون الخضوع لم يكن مؤمناً فلا يكون العبد مؤمناً بالله إلا إذا أثبتهم جميعاً لله وجده ،وهذا هو مضمون وحقيقة ومعنى "لا إله إلا الله " التي جاءت بها الرسل ودعى إليها الأنبياء ،وخلقت من أجلها الجنة والنار فمن أتي بها كان مؤمناً حقاً ،ومن لم يؤمن أو يأتي بها كان كافراً حقاً ،والكون كله بل كل ذرة شاهدة على هذه الحقيقة أي "لا إله إلا الله " وكل يوم وليلة يدعوا إلى هذا المضمون كما قال تعالى :﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾ [سورة فصلت 41/53] .وجعل لنا الآيات المرئية شاهدة على ذلك "أي مخلوقات الله " ،وجعل لنا الآيات السمعية شاهدة على ذلك "أى القرآن الكريم" فمن تدبر في الآيات المرئية أو السمعية دخل إلى هذه الحقيقة "لاإله إلا الله " "أي أصل الدين " فلو ترك الإنسان سجيته دون أن تجتاله شياطين الجن والأنس لأتى بمضمون هذه الكلمة دون ما عناد لأنه من فطرته ،فكما فطر المولود الصغير على إمتصاص الحليب من ضرع أمه ،أيضاً فطر على مضمون هذه الكلمة "لا إله إلا الله" كما قال عليه الصلاة والسلام :" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " الحديث ، وكما قال رب العزة في الحديث القدسي :"خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فأجتالتهم عن دينهم وأحلت لهم الحرام ،وحرمت عليهم الحلال ".
وقد أخذ الله علينا العهود والمواثيق على ذلك كما قال تعالى :﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) ﴾ [سورة الأعراف 7/174:172] وكما قال ابن عباس رحمه الله : "إن الله مسح على ظهر آدم واستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة وخاطبهم خطاب العقلاء ألست بربكم أي : إلهكم ومليككم " فلو تدبر العبد في آيات الله وفي الكون ومن حوله وفي نفسه لعلم أن لهذا الكون خالق دلت عليه هذه المخلوقات ،فلكل خلق خالق ولكل موجود موجد ولكل صنعة صانع وهذا من مسلمات العقل البديهية ومن ثم يدرك عظمة هذا الخالق بعظمة مخلوقاته فلا يوجد العظيم إلا من أعظم منه إذ العاجز الضعيف يستحيل أن يوجد من أعظم منه ، وأيضاً يدرك ضعفه وعجزه – أي العبد – ويدرك أن هذا الكون مسخر لخدمته فيحب من سخر له ذلك لأن النفس مجبولة على أن تحب من أحسن إليها ،ويرجوا خالق هذا الكون عندما يعجز على تحصيل مرغوبه ،ويخافه عندما يري قوة خالقه وبطشه ،ويخضع له لأنه في ملكه ولا يستطيع أن يخرج عنه أبداً وهو واقع تحت حكمه وسلطانه،هكذا يكون العبد قد أثبت لله أصول العبادة الخمسة التي هي :"التعظيم والحب والخوف والرجاء والخضوع " والتي يقوم عليها إثبات الحكم والولاء والشعائر ،وهكذا يكون قد أثبت الإيمان بالله المتمثل في – إلا الله – فعندما يجد قوماً يعظمون أو يحبون أو يرجون أو يخافون أو يخضعون لغير الله من شجراً وحجراً وبقراً أو بشراً أو قبراً ...إلخ ،أي يصرفون له أصل من أصول العبادة أو كلها ,تنطق فطرته ويعلم في قلبه أن هذه الآلهة لا تستحق أن يصرف لها شئ من العبادة "وهذا هو إعتقاد البطلان " وبالتالي لا يصرف لها شئ من العبادة لأنه لا يستحقها إلا الله "وهذا هو تركها " والقوم الذين يفعلون ما يفعلون ،أي يفعلون هذا الفعل ليسوا على حق لأنهم اخذوا حق الله وأعطوه لغير الله "وهذا هو تكفير أهلها" ويقع في قلبه بغضهم ومعاداتهم لأنهم عادوا الله وعلى قدر حبه لله تكون عداوته لهم "وهذا هو بغضهم ومعاداتهم" وهكذا يكون قد أثبت الكفر بالطاغوت المتمثل في – لا إله – هكذا يكون تحقيق مضمون – لاإله إلا الله – وهذه العملية فطرية فورية لا تحتاج إلى ساعات فضلاً عن أيام فكما أن الطفل الصغير يبدأ بالامتصاص بمجرد أن يضع فمه على الضرع ويبدأ بالصراخ بمجرد أن يشعر بالجوع فكذالك – لا إله إلا الله – يحقق مضمونها بمجرد أن يرى أو يسمع آيات الله طبعاً إذا سلم من إجتيال الشياطين فهكذا يصل العبد إلى معنى – لا إله إلا الله – إذ ترك على سجيته وأعمل عقله في آيات الله كما وصل الأحناف رحمهم الله وكما كان ابن نفيل عندما وجد مشركي مكة يذبحون لغير الله ،قال :"با قريش من انزل الماء .قالوا : الله ،قال : من أنبت العشب .قالوا :الله .قال :من خلق الشاة .قالوا : الله .قال : الله الذي أنزل الماء وأنبت العشب وخلق الشاة وتذبحون لغير الله ؟" .
وعندما رآهم يعبدون الأصنام ويقولون نحن على ملة إبراهيم أسند ظهر للكعبة وقال :"لا أعلم أحداً على ملة ابراهيم غيري " .فأنظر كيف حاج قومه فحاججهم بأفعال الله "الربوبية " على حقوق الله " الألوهية" والله جعل أفعاله حجة لوضوحها حتى لا يحدث فيها لبس أو خلط ومن هذا الباب فلا يقبل جهل ولا تأويل في – لا إله إلا الله – لوضوح الآيات أمام العباد ،فالجاهل بـ - لا إله إلا الله – أي أنه يجهل أن الله مستحق للعبادة وأن غيره لا يستحقها ،والمتأول ظن ان الرزق بيد غير الله فطلب منه الرزق وظن أن الخضوع لغير الله فتحاكم لغيره بالجهل والتأويل لا يستقيم مع – لا إله إلا الله – فالجاهل بها لم يأتي بمضمونها وكذلك المتأول فيها لم يأتي بمضمونها أيضاً .
هذه – لا إله إلا الله – التي دعى إليها الأنبياء وأتي بها الحنفاء بعيداً عن احتيال الشياطين والتي بوسع الشيخ الهرم أو العجوز أو الطفل أو البليد الفهم أو الذكي التوصل إليها بكل سهولة ويسر والله لا يكلف العباد إلا بما يسعهم ولا يكلفهم ما لا يطيقون، وهو الهادي إلى سواء السبيل . أهـ
والحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده