فتوهم :: نفسك لكربك ، وقد علاك العرق ، وأطبق عليك الغم ، وضاقت نفسك فى صدرك من شدة العرق والفزع والرعب ، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء ، حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه ، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون فى أمورهم ، فما ظنك بوقوفهم ثلاثمائة عام لا يأكلون فيه أكلة ولا بشربون فيه شربة ، ولا يلفح وجوههم روح ولا طيب نسيم ، ولا يستريحون من تعب قيامهم ونصب وقوفهم حتى بلغ الجهد منهم ما لا طاقة لهم به .
وقال قتادة : سمعت الحسن البصرى يقول : " ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ، ولم يشربوا فيها شربة ، حتى إذا إنقطعت أعناقهم من العطش ، وإحترقت أجوافهم من الجوع ، انصرف بهم إلى النار ، فسقوا من عين أنية ، قد أن حرها وإشتد نفحها ، فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به كلم بعضهم بعضا فى طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم فى الراحة من مقامهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم ، ففزعوا إلى أدم ونوح ومن بعده إبراهيم ، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم ، كلهم يقول لهم : إن ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ، فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل ووينادى بالشغل بنفسه فيقول : نفسى نفسى ، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لإهتمامه بنفسه وخلاصها .
فتوهم :: أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم ، منفرد كل واحد منهم بنفسه ينادى : نفسى نفسى ، فلا تسمع إلا قول ، نفسى نفسى .
فيا هول ذلك ! وأنت تنادى معهم بالشغل بنفسك ، والإهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه ، فما ظنك بيوم ينادى فيه المصطفى أدم ، والخليل إبراهيم والكليم موسى ، والروح والكلمة عيسى ، مع كرامتهم عند الله عز وجل ، كل ينادى : نفسى نفسى ، شفقا من شدة غضب ربه فأين أنت منهم فى إشفاقك فى ذلك اليوم وإشتغالك بحزنك وبخوفك ؟!.
حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم لما رأوا من إشتغالهم لأنفسهم ، أتوا النبى محمدا صلى الله عليه وسلم فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها ، ثم قام إلى ربه عز وجل ، وأستأذن عليه ،فأذن له ، ثم خر لربه عز وجل ساجدا ، ثم فتح عليه من محامده ، والثناء عليه لما هو أهله ، وذلك كله بسمعك ، وأسماع الخلائق ، حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم ، والنظر فى أمورهم .
فبينما أنت مع الخلائق فى هول القيامة وشدة كربها ، منتظرا متوقعا لفصل القضاء ، والحلول فى دار النعيم أو الحزن ، إذ سطع نور العرش ، وأيقن قلبك بالجبار ، وقد أتى لعرضك عليه كأنه لا يعرض عليه أحد سواك ، ولا ينظر إلا فى أمرك .
عن حميد بن هلال : قال ذكر لنا أن الرجل يدعى يوم القيامة إلى الحساب فيقال : يافلان بن فلان ، هلم إلى الحساب . حتى يقول : ما يراد أحد غيرى مما يحضر به من الحساب . ثم نادى : ياجبريل أئتنى بالنار .
فتوهمها :: وقد أتى جبريل ، فقال : ياجهنم أجيبى .
فتوهم :: إضطرابها وإرتعادها بخوفها أن يكون الله عز وجل خلق خلقا يعذبها به ، فتوهمها حين إضطربت وفارت وثارت ، ونظرت إلى الخلائق من بعد مكانها ، فشهقت إليهم ، وزفرت نحوهم ، وجذبت خزانها ، متوثبة على الخلائق غضبا لغضب ربها على من خالف أمره وعصاه .
فتوهم :: صوت زفيرها وشهيقها ، وترادف قصبتها ، وقد إمتلآ منه سمعك ، وإرتفع له فؤادك ، وطار فزعا ورعبا ، ففر الخلائق هربا من زفيرها على وجوههم ، وذلك يوم التنادى ، لما سمعوا بدوى زفيرها ولوا مدبرين ، وتساقطوا على ركبهم جثأة حول جهنم ، فأرسلوا الدموع من أعينهم .
فتوهم :: إجتماع أصوات بكاء الخلائق عند زفيرها وشهيقها ، وينادى الظالمون بالويل والثبور ، وينادى كل مصطفى وصديق ومنتخب وشهيد ومختار وجميع العوام : نفسى نفسى .
فتوهم :: أصوات الخلائق من الأنبياء فمن دونهم كل عبد منهم ينادى : نفسى نفسى ، وأنت قائلها ، فبينما أنت مع الخلائق فى شدة الأهوال ووجل القلوب إذ زفرت الثانية ، فيزداد رعبك ورعبهم ، وخوفك وخوفهم ، ثم زفرت الثالثة ، فتساقط الخلائق لوجوههم ، وتشخص بأبصارهم من طرف خاشع خفى خوفا من أن تلفهم فتأخذهم بحريقها ، وإنتصف عند ذلك قلوب الظالمين ، فبلغت لدى الحناجر كاظمين ، فكظموا عليها ، وقد غصت فى حلوقهم ، وطارت الألباب ، وذهلت العقول من السعداء والأشقياء أجمعين ، فلا يبقى رسول ولا عبد صالح مختار إلا ذهل لذلك عقله
فأقبل الله عز وجل عند ذلك على رسله ، وهم أكرم الخلائق عليه ، وأقربهم إليه ، لأنهم الدعاة إلى الله عز وجل والحجة على عباده وهم أقرب الخلائق إلى الله عز وجل وجل فى الموقف وأكرمهم عليه ، فيسألهم عما أرسلهم به إلى عباده ، وماذا ردوا عليهم من الجواب ، فقال لهم { ماذا أجبتم } فردوا عليه الجواب عن عقول ذاهلة غير ذاكرة ، { لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب }
فأعظم به من هول تبالغ من رسول الله عز وجل فى قربهم منه وكرامتهم ، حتى أكهل عقولهم ، فلم يعلموا بماذا أجبتهم أممهم .
عن أبى حسن الدمشقى ، قال : قلت لأبى قرة الأزدى : كيف صبر قلوبهم على أهوال يوم القيامة ؟ قال : إنهم إذا بعثوا خلقوا خلقة يقوون عليها .
فتوهم :: نفسك لذلك الخوف والفزع والرعب والغربة
والتحير إذا تبرأ منك الولد والوالد ، والأخ والصاحب ،
والعشائر ، وفررت أنت منهم أجمعين ، فكيف خذلتهم
وخذلوك ، ولولا عظم هول ذلك اليوم ما كان من الكرم
والحفاظ أن تفر من أمك وأبيك ، وصاحبتك وبنيك ،
وأخيك ، ولكن عظم الخطر ، وإشتد الهول .
فلا تلام على فرارك منهم ، ولا يلامون ، ولم تخصهم
بالفرار دون الأقرباء ؟ لبغضك إياهم ، وكيف تبغضهم
أو يبغضونك ؟ وكيف خصصتهم بالفرار منهم ؟
أتبغضهم وإنهم هم الذين كانوا فى الدنيا مؤانسيك ،
وقرة عينك ، وراحة قلبك ، ولكن خشيت أن يكون لأحد
عندك منهم تبعة فيتعلق بك حتى يخاصمك عند ربك
عز وجل ، ثم لعله أن يحكم له عليك ، فيأخذ منك ما ترجو
أن تنجو به من حسناتك ، فيفرقك منها فتصير بذلك إلى
النار .
فبينما أنت فى ذلك ، إذ إرتفعت عنق من النار فنطقت بلسان
فصيح بمن وكلت بأخذهم من الخلائق بغير حساب ، ثم أقبل
ذلك العنق فيلتقطهم لقط الطير الحب ، ثم إنطوت عليهم
فألقتهم فى النار فإبتلعتهم ، ثم خنست بهم فى جهنم فيفعل
ذلك بهم .
ثم ينادى منادى : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم ، ليقم
الحمادون لله على كل حال ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة ،
ثم يفعل ذلك بأهل قيام الليل ، ثم بمن لم تشغله تجارة الدنيا
ولا بيعها عن ذكر مولاه ، حتى إذا دخلت هذه الفرق من أهل
الجنة والنار ، ثم تطايرت الكتب فى الأيمان والشمائل
ونصبت الموازين .
فتوهم :: الميزان بعظمه منصوبا .
وتوهم :: الكتب المتطايرة وقلبك واجف متوقع أين يقع كتابك
فى يمينك أو فى شمالك .
عن الحسن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه
فى حجر عائشة فنعس ، فتذكرت الأخرة ، فبكت ، فسالت
دموعها على خد النبى صلى الله عليه وسلم ،
فقال { ما يبكيك ياعائشة }؟!. فقالت : يارسول الله ذكرت الأخرة
هل تذكرون أهليكم يوم القيامة ؟ فقال { والذى نفسى بيده فى
ثلاثة مواطن فإن أحد لا يذكر إلا نفسه ، إذا وضعت الموازين
ووزنت الأعمال حتى ينظر إبن أدم أيخف ميزانه أم يثقل؟
وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله ؟ وعند الصراط }
وعن أنس بن مالك ، قال : " يؤتى بإبن أدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفتى الميزان ، ويوكل به ملك ، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوته يسمع الخلائق : سعد فلان إبن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف : شقى فلان إبن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا .
فبينما أنت واقف مع الخلائق ، إذ نظرت إلى الملك ، وقد أمر
أن يحضر بالزبانية ، فأقبلوا بأيديهم مقامع من حديد عليهم
ثياب من النار ، فلما رأيتهم طار قلبك فزعا ورعبا ، فبينما
أنت كذلك إذ نودى بإسمك، فنوديت على رءوس الخلائق
والأولين والأخرين : أين فلان إبن فلان ؟ هلم إلى العرض
على الله عز وجل ، وقد وكل الملائكة بأخذك حتى يقربوك إلى ،
ربك عز وجل ، فلم يمنعها إشتباه الأسماء بإسمك أن تعرفك
لما ترى بك أنت المراد بالدعاء المطلوب .
فتوهم :: حين وقفت بالإضطراب والإرتعاد .
وتوهم :: مباشرة أيديهم على عضديك ، وغلظ أكفهم حين
أخذوك .
فتوهم :: نفسك محثوثة فى أيديهم .
وتوهم :: تخطيك الصفوف ، طائرا فؤادك ، متخلعا قلبك .
فتوهم :: نفسك فى أيديهم كذلك حتى إنتهى بك إلى عرش
الرحمن ، فقذفوا بك من أيديهم ، وناداك الله عز وجل
بعظيم كلامه : أدنو منى يا بن أدم ، فغيبك فى نوره ،
فوقفت بين يدى رب عظيم جليل كبير كريم بقلب خافق
محزون ، وجل مرعوب ، وطرف خائف ، خاشع ذليل
ولون متغير ، وجوارح مرتعدة مضطربة ، كالحمل الصغير
حين تلده أمه، ترتعد ، بيدك صحيفة محبرة لا تغادر
بلية كسبتها ، ولا مخبأة أسررتهأ ، فقرأت ما فيها بلسان
كليل ، وحجة داحضة ، وقلب منكسر ، فكم لك من حض
وخجل ، وجبن من المولى الذى لم يزل إليك محسنا ،
وعليك ساترا ، فبأى لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح
فعلك ، وعظيم جرمك ؟ وبأى قدم تقف غدا بين يديه ؟
وبأى نظر تنظر إليه ؟ وبأى قلب تحتمل كلامه العظيم
الجليل ومساءلته وتوبيخه ؟
فتوهم :: نفسك بصغر جسمك ، وإرتعاد جوارحك ، وخفقان
قلبك ، وقد سمعت كلامه بتذكير ذنوبك ، وإظهار مساوئك ،
وتوقيفك بمخبأتك .
فتوهم :: نفسك بهذه الهيئة ، والأهوال بك محدقة من خلفك ، فكم من بلية قد نسيتها ، قد ذكرك إياها ، وكم من سريرة قد كنت كتمتها قد أظهرها وأبداها ، وكم من عمل قد ظننت أنه قد خلص
لك وسلم بالغفلة منك إلى ميل الهوى عما يفسده ، قد رده فى
ذلك الموقف عليك وأحبطه ، بعد ما كان أملك فيه عظيما .
فياحسرات قلبك ، وتأسفك على ما فرطت فى طاعة ربك ،
حتى إذا كرر عليك السؤال بذكر كل بلية ، ونشر كل مخبأة ،
فأجهدك الكرب ، وبلغ منك الحياء منتهاه ، لأنه الملك الأعلى
فلا حياء يكون من أحد أعظم من الحياء منه ، لأنه القديم
الأول الباقى الذى ليس له مثل ، المحسن المتعطف المتحنن
الكريم الجواد المنعم المتطول .
فما ظنك بسؤال من هو هكذا ؟!.وقد أبان عن مخالفتك إياه
وقلة هيبتك له ، وحيائك منه ، ومبارزتك له ، فما ظنك بتذكيره
إياك مخالفته ، وقلة إكتراثك فى الدنيا بالطاعة له ، ونظرك إليه
إذ يقول : ياعبدى أما أجللتنى ؟ أما إستحييت منى ؟ إستخففت
بنظرى إليك ؟ ألم أحسن إليك ؟ ألم أنعم عليك ؟ ما غرك منى ؟
شبابك فيما أبليته ؟ وعمرك فيما أفنيته ؟ ومالك من أين إكتسبته
وفيما أنفقته ؟ وعملك ماذا عملت فيه ؟
وأنت ياإبن أدم بين خطرين عظيمين : إما أن يتلاقاك برحمته
ويتطول عليك بجوده ، وإما أن يناقشك الحساب ، فيأمر بك إلى
الهاوية وبئس المصير .
فما ظنك بنفسك وضعف قلبك ، والله عز وجل يكرر عليك ذكر
إحسانه إليك ، ومخالفتك له ، وقلة حيائك منه ؟
فأعظم به موقفا !
وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية !
وأعظم بما يداخلك من الحزن والغم ، والتأسف على ما فرطت
فى طاعته ، وركوبك معصيته .
فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء بدا لك من أحد
الأمرين : الغضب ، أو الرضا عنك والحب لك ، فإما أن يقول
يا عبدى أنا سترتها عليك فى الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم
فقد غفرت لك كبير جرمك وكثير سيئاتك ، وتقبلت منك يسير
إحسانك .
فيستطير بالسرور والفرح قلبك ، فيشرق لذلك وجهك.
فتوهم :: نفسك حين قالها لك ، فإبتدأ إشراق السرور ونوره
فى وجهك بعد كأبته وتكسفه من الحياء من السؤال والحصى
من ذكر مساؤى فعلك ، فإستبدلت بالكأبة والحزن سرورا فى
قلبك ، فأسفر وجهك ، وإبيض لونك .